الحج: من الطقوس إلى تحوّل الحياة
بقلم: ليغيسان سامتافسير
(مؤسس حركة إندونيسيا مبرور)
كثيرًا ما يُفهم الإسلام فهمًا ضيقًا، مقتصرًا على أداء الشعائر التعبدية فحسب. بينما في الحقيقة، فإنّ كل شعيرة في الإسلام تحمل معاني روحية عميقة يمكن تطبيقها في مختلف مجالات الحياة، بما في ذلك المهنة والعمل. ومن أبرز تلك الشعائر التي تنطوي على معانٍ تحوّلية عميقة: الحج. ولكن، إلى أيّ مدى ندرك أن الحج ليس مجرد أداء شعائر، بل هو أيضًا صياغة للفكر، وبناء للشخصية، ودافع للتغيير الاجتماعي؟
في ممارستنا، يُفهم الحج في الغالب على أنه سلسلة من الأعمال البدنية التي يجب أداؤها وفقًا للشريعة. لكن في الحقيقة، كل ركن من أركان الحج يحمل دلالات فلسفية وروحية يمكن إسقاطها على حياة الفرد المهنية والاجتماعية. فمثلاً، ارتداء لباس الإحرام لا يعني فقط تغطية الجسد بقطعتين من القماش الأبيض، بل هو تعبير عن التجرّد من التكبر، والتخلي عن مظاهر الحياة المترفة، والتدريب على التواضع، والمساواة، والصفاء الداخلي، والوعي الروحي. وهذه القيم يمكن تحويلها إلى سلوكيات عملية مثل الإخلاص، والشفافية، والتفكير الأخلاقي في العمل.
وكذلك الوقوف بعرفة، وهو لحظة اعتراف بعبودية الإنسان لله وخلافته في الأرض. فإذا أدركنا عمق هذا المفهوم، يمكننا اتخاذه قاعدة في العمل المسؤول، وتحديد رؤية ورسالة هادفة في الحياة والمهنة، ووضع خارطة طريق بناءً على النموذج النبوي في القيادة. وينطبق هذا الفهم أيضًا على باقي مناسك الحج كالمبيت بمزدلفة، ورمي الجمرات، والطواف، والسعي بين الصفا والمروة، والتحلل، وزيارة المواقع التاريخية في مكة والمدينة؛ فكل منها يحمل رسالة للتزكية الفردية والإصلاح الاجتماعي.
مقبول أم مبرور؟
يظن كثير من الناس أن أداء مناسك الحج على الوجه الصحيح كافٍ، طالما أنها مستوفية للأركان والشروط (مقبول). ولكن، هل وصلت إلى مرتبة البرّ أو الحج المبرور؟
الحج المبرور لا يعني فقط الصحة الفقهية، بل هو الذي تظهر آثاره في سلوك الإنسان بعد عودته، فيستمر أثره في حياته اليومية والمهنية، ويكون بمثابة انطلاقة نحو أداء الأمانة وتحقيق الخير للناس.
إن ميدان ما بعد الحج هو الميدان الحقيقي للصراع والاختبار. فمن صبر على الزحام والحر في مكة والمدينة، ينبغي له أن يصبر على التحديات الأخلاقية والمهنية والاجتماعية في وطنه. للأسف، كثير من الحجاج يعودون إلى روتينهم القديم دون أي أثر يُذكر للحج في حياتهم. بينما الحج المبرور هو الذي يغيّر الإنسان نحو الأفضل، ويزيده نفعًا لأسرته ومجتمعه.
وفوق ذلك، فإن للحج أبعادًا جماعية عظيمة تتعدى الفرد، تمتد إلى السياسات الوطنية والعلاقات الدولية. وفي السياق الإندونيسي، ينبغي أن يكون الحج وسيلة للتغيير في مستويين رئيسيين:
أولاً، أداة للتحوّل الشخصي عبر ترسيخ القيم العليا التي تضمن تحقيق مقاصد الشريعة.
ثانيًا، فرصة للاستثمار الاجتماعي والاقتصادي الوطني، بحيث لا يُنظر إلى الحج كمجرّد نفقات، بل كاستثمار بعيد المدى يعود بالنفع على الفرد والدولة.
الحج: استثمار ونهضة وطنية
إن القوة في الحج المبرور لا تنبع من صحة أداء المناسك فقط، بل من التحوّل الذي يحدث بعدها. قال النبي ﷺ:
“الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة”
لكن هذا “البرّ” لا يتحقق بالنية والعمل فقط، بل بتجسيده في الواقع بعد الحج.
في القرآن الكريم، يرتبط مفهوم البرّ بالتضحية بما تحب، كما في قوله تعالى:
“لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ” (آل عمران: 92)
فالحج هو أعظم تَضْحِية واستثمار من المؤمن، وكل من يرجو أن يكون حجه مبرورًا عليه أن يترجم هذه التّجربة إلى واقع جديد.
الحج ليس رحلة سياحية، ولا جولة للتسوّق، ولا مناسبة لشراء الهدايا أو شرب ماء زمزم فحسب، بل هو فرصة لصياغة حياة جديدة.
ولا ينبغي أن يكون الحج حدثًا موسميًا ينتهي بانتهاء المناسك، بل ينبغي أن يكون نقطة انطلاق نحو مستقبل مشرق، يبدأ من الفرد، ويمتد إلى الأسرة، ثم المجتمع والدولة.
في كل عام، تنفق إندونيسيا مبالغ ضخمة على بعثات الحج والعمرة. فتكلفة الحج الفردية تصل إلى 70 مليون روبية على الأقل، ومع وجود أكثر من 220 ألف حاج، فإن المبلغ الإجمالي يتجاوز 22 تريليون روبية. أما في العمرة، فإن عدد المعتمرين يتجاوز 1.8 مليون شخص، بتكلفة تقارب 30 مليون روبية لكل فرد، مما يجعل إجمالي الإنفاق يصل إلى أكثر من 50 تريليون روبية. أي أن مجموع الإنفاق السنوي على الحج والعمرة في إندونيسيا يقارب 70 تريليون روبية.
والسؤال هو: هل تُعتبر هذه الأموال مجرّد مصروفات؟
إذا نظرنا إليها على أنها نفقات فقط، فإن الحج يصبح أمرًا فرديًا بحتًا.
أما إذا اعتبرناها استثمارًا، فإننا بحاجة إلى تقييم نتائجه.
فهل أدى هذا الاستثمار إلى تغيير إيجابي في الفرد؟ هل عاد النفع على المجتمع؟ هل انعكس ذلك على الأخلاق والسلوك في العمل، والالتزام في المؤسسات، والصدق في العلاقات؟
فلنأخذ مثلاً: إذا أرسل صاحب شركة 20 موظفًا لأداء العمرة، فبالتأكيد يتوقع منهم عودة بأخلاق وسلوك أفضل، وانضباط أكبر، وروح جديدة في الأداء.
وهذا هو العائد الحقيقي من الحج: تحوّل الإنسان إلى إنسان مبرور، منتج، ومصلح.
خاتمة
الحج لا ينبغي أن يكون مجرد حدث مثل حضور فيلم سينمائي، نخرج منه دون أثر.
بل هو تجربة روحية وعقلية، تصوغ شخصية الإنسان، وتعيد تشكيل رؤيته للحياة، وتجعله فاعلًا في مجتمعه.
الحجاج ليسوا مجرد زوار للأماكن المقدسة، بل هم سفراء تغيير، ومصدر نهضة وطنية.
تخيلوا لو أن كل حاج يعود بوَعْيٍ جديد ورسالة بناء، كيف يمكن أن يتغير الوطن؟
في ظل هذا الحشد الهائل والتأثير الاقتصادي الكبير، على الدولة أن ترى في الحج فرصة لتغيير شامل.
تخيلوا لو قال الرئيس برابوو للمواطنين قبل السفر:
“أيها المواطنون المتوجهون للحج، اجعلوا حجكم زادًا لبناء إندونيسيا. سافروا بالإيمان والتقوى، وعودوا بروحٍ مبرورة وعزيمةٍ للتغيير. لنُحقق معًا نهضة إندونيسيا الذهبية 2045!”
فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَلْبَابِ.